كم
كان العلامة ابن الأثير صاحب بصيرة ثاقبة واستشراف علمي عندما صدّر كتابه
النفيس وسفره الحافل: الكامل في التاريخ بهذه العبارات المعبرة: "ولقد رأيت
جماعة ممن يدعي العلم والمعرفة ويزدريها، ويعرض عنها ويلغيها، ظناً منه أن
غاية فائدتها إنما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار،
وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللب نظره، وأصبح مخشلباً جوهره، ومن رزقه
الله طبعاً سليماً، وهداه صراطاً مستقيماً، علم أن فوائدها كثيرة،
ومنافعها الدنيوية والأخروية جمة غزيرة...".
لقد
راجت في الأيام الأخيرة عدة كتابات ومقالات وأطروحات ثقافية من قبل مجموعة
من الكتاب الذين ينتمون للمدرسة العصرانية أو العقلانية، ومن الذين ينتمون
لمدرسة التقريب من المسكونين بقيم إيران ومبادئ ثورتها الخمينية، هذه
الكتابات والمقالات كلها تدندن حول فكرة في غاية الخطورة، وتهدف لغرض يزيد
الأمة ضعفاً وتغريباً وتوهاً، هذه الفكرة أو الأطروحة: هي حتمية تجاوز
الأحداث التاريخية بكل ما تحمله من ذكريات ووقائع، والتخلي عن وطأة النصوص
التاريخية، وسلب القدسية عنها بزعمهم، إلي غير ذلك من العبارات المنمقة،
والتعبيرات المدبجة التي صيغت بإحكام لغوي، ومسبوك بيان، حتى تروج على
العقول والنفوس.
وأنا
أعلم يقيناً أن الانتصاب للرد على أمثال هذه الأفكار والأطروحات سيجعل
المرء غرضاً لكلمات ومقالات مثل اللكمات، وعبارات أشبه بالطلقات، وازدراء
واستجهال واستغمار لما سيطرح للرد على أنصار المدرستين: العصرانية
والتقريبية، لما لهم من دعم ووجود قوي وحضور كبير في الفضائيات والمنتديات
والشاشات، وآخر هذه المقالات كان في موقع الجزيرة لأحد الكتًاب
الموريتانيين.
التاريخ الذي نريده:
التاريخ
الذي نريده ونعنيه، والذي يتعرض الآن لحملة شرسة من بعض أبنائه، هو
وبعبارة واحدة ذاكرة الأمة، والذاكرة للأمة كالذاكرة للفرد تماماً، به تعي
الأمة ماضيها، وتفسر حاضرها، وتستشرف مستقبلها، والإنسان الذي يفقد ذاكرته
يرتد ولو كان ضخم الجسم، واسع الثراء، عظيم الجاه، يرتد طفلاً غراً لا يعي
شيئاً من حوله، يحتاج لمن يوجهه ويقوده ويأخذ بيديه، بالجملة يصبح بالجملة
عالة على غيره، تماماً مثلما ما هو حادث الآن للأمة المسلمة التي فقدت
تاريخها، وهو ما يحدث لأي أمة مسلمة أو غير مسلمة إذا استلب منها تاريخها
وتراثها، فالتاريخ ليس علم الماضي أو الذاكرة الموتورة كما قال الكاتب
الموريتاني مؤخراً، بل هو علم الحاضر والمستقبل، لذلك نجد الأمم من حولنا
تعرف قدر التاريخ حق المعرفة والتقدير، وتحافظ عليه بشتى السبل والوسائل،
والأمة الحية الباقية هي الأمة التي تبقي على ذاكرتها حية.
وهذا
الكلام لا يعني أبداً أننا نضفي قدسية ما على التاريخ ونصوصه، ولكن نعني
أن التاريخ الذي نريده هو التاريخ الذي يعتبر ذاكرة للأمة، وأداة من أهم
أدوات نهوضها والتقدم، التاريخ الذي تتجسد فيه عدة حقائق هامة، لابد لكل
دارس وقارئ للتاريخ أن يراعيها ومنها:
-
أن التاريخ الإسلامي ليس فقط هو التاريخ السياسي أو تاريخ السلطة الحاكمة
من خلفاء وسلاطين وحكام، بكل ما يحمله من أمور تتعارض مع ثوابت الشريعة في
كثير من أحوالها، ودسائس القصور ومؤامرات أصحاب النفوذ، وقيام الدول
وزوالها، وإن كان معظم التاريخ يتمحور حوله، لكن نقصد التاريخ الإسلامي كله
بشكل عام، من الرأس إلي القاعدة، وعطاء الأمة الحضاري في شتي الميادين
والمجالات، وإسهاماتها المباشرة وغير المباشرة في رقي البشرية، وتقدم
الإنسانية، والتركيز على السياسي دون الحضاري يعطيك صورة منقوصة وسلبية عن
هذا التاريخ الحافل بالإنجازات.
-
أن التاريخ الإسلامي ليس فقط تاريخ فترات الانتصار والازدهار وحدها، كما
هو ليس تاريخ فترات التراجع والانكسار وحدها، والتركيز على فترة دون الأخرى
يعطي حكماً منقوصاً ورؤية مشوشة عن هذا التاريخ، وهذا ما يفعله عادة كارهو
التاريخ، يسوقون الكثير من الأحداث والوقائع التاريخية من فترات التراجع
وغياب المبادئ والقيم الإسلامية بصورتها الكاملة، للاستدلال على سوداوية
هذا التاريخ وعدم صلاحيته للمعايرة والتقييم والاستفادة.
-
أن التاريخ الإسلامي إنما هو وعاء لفعل الأمة وسجل لحياتها وحركتها صعوداً
وهبوطاً، وعنوان فهمها للقيم والسنن، ومدى تطبيقها على الواقع، لذلك
فقراءة التاريخ تحتاج لتجرد وموضوعية وحيادية، ليس كما يحدث الآن من اختزال
وابتتار واختطاف للنصوص لصالح مفاهيم وأهداف بعينها أعدت سلفاً، تماماً
كمنهج أهل البدع في الاستدلال، الحكم عندهم أولاً ثم جاري البحث عن الأدلة
التي تثبته.
-
أن التاريخ الإسلامي إنما هو تاريخ هذا الدين، تاريخ حركته وانتشاره
والدعوة إليه، وصراعاته مع القوى المعادية، تاريخ صعوده وانتصاره، تاريخ
سننه وقيمه حضوراً وغياباً، تاريخ الأمم والبلاد التي دخلها الإسلام وساد
وانتشر فيها وحكم، أي تاريخ العرب وغير العرب، تاريخ الجميع من أبنائه فيه
سواء، تاريخ اشترك في صنعه الجميع، تاريخ يشهد لكل من ساهم في بنائه، عربي
أم غير عربي، وتاريخ العرب إنما هو جزء صغير من تاريخ الأمة، والجزء الأكبر
منه صنعه غير العرب، فحفظ التاريخ مكانة كل هؤلاء، حفظ مكانة صلاح الدين
الكردي، ونور الدين التركي، ويوسف بن تاشفين البربري، وقطز وبيبرس وقلاوون
التركمان، ومراد الأول والثاني ومحمد الفاتح العثمانيين، وعثمان بن فودي
الإفريقي، والقائمة طويلة، وغير العرب فيها أضعاف أضعاف العرب.
-
أن التاريخ الإسلامي تعرض مبكراً لحملات قاسية ومتتالية من التشويه
والتحريف والتزييف والعبث من قبل أعداء الأمة، الذين لا يريدون لها خيراً،
وكان الشيعة الرافضة أول من امتدت أصابعهم الخبيثة بتحريف التاريخ في
العهدين الأموي والعباسي، ومن بعدهم العبيديين الملاحدة، ثم كان دور
الأعداء الخارجيين من الصليبيين واليهود وغيرهم، ولقدم التحريف والتزوير
ورسوخه في تاريخ الأمة، راج على كثير من الناس حتى الفضلاء والعلماء منهم،
من غير المتخصصين في النواحي التاريخية، والمحصلة النهائية من هذا التحريف
والعبث، تشكيك المسلمين في تاريخهم، وقطع الصلة معه، ليفقد التاريخ قيمته
ومصداقيته في الاحتجاج والاحتفاء.
لكن لماذا يكره العصرانيون والتقريبيون التاريخ الإسلامي؟
الهدف
وإن كان واحد لدى الفريقين، إلا لكل فريق أجندته الخفية ودوافعه الخاصة
به، فالعصرانيون والعقلانيون من كتًاب العصر ومفكرو الجزيرة وغيرهم، يكرهون
التاريخ لرغبة ملحة عندهم في طمس الهوية الثقافية المسبقة عند جمهور
المسلمين، وهدم الخلفية العقلية التي تشكلت عبر القرون بكل ما تحمله من
تجارب وأدوات ومعارف، وذلك لصالح قيامهم بإعادة صياغة العقل العربي
والإسلامي، وإعادة تشكيل العلوم والثقافة الإسلامية، وتطويع نصوصها وفقاً
للمعايير والضوابط التي قامت عليها المدرسة العقلانية والعصرانية، والنابعة
أساساً من طريقة تناولهم وفهمهم لنصوص الوحيين، وبالجملة تكوين مرجعية
إسلامية جديدة وعليا يحاكمون الناس والنصوص إليها، بدلاً من المرجعيات
والضوابط التاريخية السابقة، وتتجاوزها تماماً بدعوى عدم الصلاحية،
والتاريخ بكل ما يحمله من نتاج العقل الإسلامي المبدع عبر القرون الطويلة
يقف حائلاً أمام طموحات وأطروحات العصرانيين، لذا كان من الواجب التخلص
منه.
أما
أنصار التقريب، فهم كما قلنا يمثلون الوعي المنقوص في هذه الأمة، فهم لا
يفرقون بين العدو والصديق، يحسبون كل ما يلمع ذهباً، مسكونين بالقيم
الإيرانية والمبادئ الخمينية، والقضية أكبر من كونها الوقوف بجوار حركات
المقاومة ودعم المجاهدين ونصرة المستضعفين، وإلا فإنهم لا يجرؤ الواحد منهم
على الإدلاء برأيه في ما يجري في إيران من اضطهاد وتنكيل بأهل السنة
ومصادرة لأبسط حقوقهم، ولا يجرؤ الواحد من التقريبيين على إبداء رأيه في
عقائد الشيعة وما فيها من كفريات وضلالات، وهؤلاء يكرهون التاريخ لأنه حافل
وزاخر بالمواقف المشينة التي تفضح حقائق الشيعة وجرائمهم، وجنايتهم بحق
الأمة عبر القرون حتى وقتنا القريب، والتاريخ حكم عدل على هذه الجرائم
البشعة، والتي تقف حجر عثرة في طريق التقريب والاتحاد كما يدعي ويروج أنصار
التقريب في بلادنا.
بالجملة
فإن أي دعوى تروج لفكرة إلغاء التاريخ الإسلامي، أو نبذه أو تطويره،
وإعادة صياغة له -ليس إعادة قراءة- فهي في النهاية لا تخدم إلا أعداء الأمة
الأصليين والحقيقيين الذين يرمون لبقاء الأمة أسيرة التبعية والتيه،
ويعملون ليل نهار من أجل بقاء الأمة بلا ذاكرة، تماماً مثل الإنسان فاقد
الذاكرة.