أحمد الله تعالى أبلغ الحمد وأكمله، وأزْكاه وأشمله، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، المصطفى بتعميم دعوتِه ورسالته، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من النبيِّين، وآل كل، وسائر الصَّالحين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
فإنَّ التَّشريع الإسلامي قد أثبت القوامة الشرعيَّة للرَّجل بضوابطها الشَّرعية، قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]، وإنَّ هذه القوامة من تَمام نعمة الله - سبحانه وتعالى - عليْنا، فإنَّها ملائمة ومناسبة لكلٍّ من الرَّجُل والمرأة، وما فطرنا الله عليه من صفات جبلّية، ومن استعدادات فطريَّة.
بيد أنَّ الأزمان تغيَّرت، والثَّقافات تداخلتْ، وكثُرت محاولات أعداء المسلمين تشويه صورة هذا الدين الحنيف، بطرقٍ مُباشرة وأخرى غير مباشرة، بل بطرُق ظاهرُها الرَّحْمة، والشَّفقة والعَطْف على المرأة، وباطِنُها العذاب، كلّ هذه الأمور، مضافًا إليْها سوء الفهم لدى كثيرٍ من المسلمين لمعنى القوامة ووظيفتِها الشَّرعية، جعل من الأهمية بمكانٍ الحديث عن هذه الوظيفة الشَّرعيَّة السامية، بِما يوضِّح حقيقتَها الشَّرعيَّة، ويبيِّن زيف تلك الشبه والادِّعاءات التي وجهت لهذا الدين عبر قوامة الرَّجُل الزَّوجيَّة في الشَّريعة الإسلاميَّة.
وقد اقتضت طبيعة البحث أن تكون خطَّة الدراسة في تمهيد، وستَّة مباحث، وخاتمة، وبيان ذلك فيما يأتي:
التمهيد: جعلتُه عن تكريم الإسلام للمرْأة.
المبحث الأوَّل: تناولت فيه تعْريف القوامة في اللُّغة والاصطِلاح.
المبحث الثَّاني: ذكرت فيه النُّصوص الشرعيَّة من القرآن والسنَّة على القوامة، وفقْه تلك النصوص.
المبحث الثالث: تكلَّمت فيه عن الأسباب الشرعيَّة للقوامة.
المبحث الرابع: تناولتُ فيه الضَّوابِط الشَّرعيَّة لقوامة الرَّجُل.
المبحث الخامس: تكلَّمت فيه عن مقتضى قوامة الرجل الشرعيَّة.
المبحث السادس: تناولت فيه الشُّبهات المعاصرة حوْل القوامة الشَّرعيَّة للرَّجُل، والرَّد عليْها.
الخاتمة: ذكرت فيها أبرز النَّتائج التي توصَّلتُ إليْها من خلال البحث.
وأخيرًا: فقد حاولتُ من خِلال هذا البحث الإسهامَ في معالجة هذا الموضوع، معالجة شرعيَّة مفيدة للأُسْرة والمجتمع، فما كان من صوابٍ فمِن الله - عزَّ وجلَّ - وما كان من زللٍ فمِن نفْسي، وأستغفر الله، ولا غرْو؛ فإنَّ العصمة والكمال لمن تفرَّد بالجلال، وهو حسبي وعليه الاتِّكال، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
(تمهيد)
تكريم الإسلام للمرأة
جاء الإسلام والمرْأة لا قيمة لها في المجتمع، بل جاء الإسلام والمرْأة تعَدُّ من سقط المتاع: تُباع وتورث وتوهب وتُهان، فهي سلعة من السِّلَع التي تتداولُها الأيدي، وإنَّما يحتاج إليْها للاستِمْتاع الجسدي فقط كسائر ما يستمتع به الرَّجُل، ولا غرْو، فقد كان الرَّجُل يدفن ابنتَه وهي حيَّة؛ خشية العار، وما الظَّنُّ بِمجتمع وصل به الحال إلى أن يقتُل الأب فلذة كبدِه بيديْه، وبأبشع صور القتْل وأفظعها.
وقد جاء الإسلام ومعه الكرامة والعزَّة والشَّرف والتَّقدير للمرأة، جاء بما يكفل حقوقها ويحميها من كيد الآخرين وعدوانِهم لما في طبيعتِها من اللِّين والرقَّة واللَّطافة؛ فهي الأم الحنون، وهي الأُخْت الكريمة، وهي الزَّوجة الحبيبة، وهي البِنْت الرَّقيقة؛ فالمرأة نبع الحنان، ومصدر الأمان ونهر الحب والعطاء والعرفان.
وقد كرَّم التَّشريع الإسلامي المرْأة أيَّما تكريم، وهذا التَّكريم تضمَّنته نصوص الشَّريعة الإسلاميَّة المتمثِّلة في القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الصحيحة، منذ أكثر من أربعةَ عشر قرنًا من الزَّمان.
فثمَّة آياتٌ عديدة أشارت إلى تكريم المرأة؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، ففي هذه الآية الكريمة، تقرير قاطع بأنَّ الله - سبحانه وتعالى - كرَّم بني آدم، وهم الرجال والنساء على حدّ سواء، دونَما فارق بين ذكورهم وإناثهم، ومقتضى هذا بداهة أنَّه - سبحانه - كرَّم الجنس البشري كله.
والتَّكريم - كما قال ابن منظور في "لسان العرب" -: هو التَّشريف، وإحسان المعاملة، والإنعام على البشر بما يناسبهم ويرضيهم، وممَّا سبق نستنتِج: أن الله - تعالى - قد أفاء بمعاني التكريم هذه على الرِّجال، كما أفاء بها على النِّساء، تمامًا بتمام.
وثمَّة أحاديث عديدة في هذا الصَّدد، بعضُها يوصي الرِّجال بالنساء، وبعضها فيه أهميَّة الرَّحم وبيان فضل صلتها، فمِن الأوَّل ما روي في الصَّحيحين عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((واستوْصُوا بالنساء خيرًا))[1] ففي الهدْي النَّبوي الشَّريف: الحثُّ على الرِّفْق بالنِّساء وحسن معاملتهنَّ، وهذا فيه من التَّكريم ما هو بيِّن.
ومن الآخر ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله خلق الخلق حتَّى إذا فرغ منهم قامتِ الرَّحِم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة، قال: نعم، أما ترْضَين أن أصِل مَن وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى، قال: فذاك لك"[2].
فالله - سبحانه وتعالى - هو الرَّحمن الرَّحيم، خلق الرَّحِم بِمعناها الحرفي الخاص، وهو موضع الولد من الأُنْثى، ومعناها الأعمّ الَّذي يشمل كلَّ قرابة تبدأ من الرَّحم وما يتولَّد فيه، واشتقَّ لها اسمًا من اسمه تعالى، وقضى أزَلاً بأنَّ مَن وصلها وأدَّى حقَّها برًّا وإحسانًا، وصله الله تعالى، ومَن قطعَها عقوقًا وإهمالاً، قطعه الله تعالى، فهل بعد ذلك تكريم؟! فإنَّه - وايم الله - تكريم ما بعده تكريم، وتشريفٌ ما بعده تشريف.
وعن أبي هريرة قال: جاء رجُلٌ إلى رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، مَن أحقُّ النَّاس بِحُسن صحابتي؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أمك))، قال: ثم من؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثم أبوك))[3].
والحديث عن تكْريم الإسْلام للمرأة ذو شجون، ولكن حسبي في هذه العجالة أن أذكُر غيضًا من فيض:
لقد أقرَّ الإسلام لها حقَّ التملُّك ما دام عن طريقٍ مشْروع، كما أقرَّ لها حقَّ الميراث، وأعطاها الصَّلاحية التَّامة في التصرُّف بأموالها، وقد أقرَّ الإسلام نفاذ صدقة الزوجة من مالِها الخاص بغير إذن زوجها، فإن تصدَّقت بمالها كلِّه فلا حرج على الزوجة في ذلك، وإن لم يأذنْ زوجها في ذلك؛ لأنَّ للمرأة ذمَّةً ماليَّة مستقلَّة كالرَّجُل، وحقُّها في التصرف في مالها أمرٌ مقرَّر في الشَّريعة ما دامت رشيدة؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]، وهو ظاهر في فك الحجْر عنهم، وإطْلاقهم في التصرُّف[4].
كما جعل الإسلام رضاها شرطًا رئيسًا في صحَّة الزَّواج، وحرَّم على الأولياء إكراهَهَا على ذلك؛ فهي صاحبةُ القرار في الرِّضا بالزَّواج ابتداءً؛ إذْ ليس لوليِّها أن يعضلَها ويَمنعها من ذلك، فإن فعل انتقلتِ الولاية إلى مَن بعدهنَّ كما إنها صاحبة القرار في الرضا بالزوج الذي تقدَّم لها.
ودليل ذلك ما رُوِي عن عائشة - رضي الله عنه - الله عنها: "أنَّ فتاة دخلتْ عليْها فقالت: إنَّ أبي زوَّجني ابن أخيه ليرْفَع بي خسيستَه وأنا كارهة، قالت: اجلسي حتَّى يأتي النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فجاء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخبرته، فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها، فقالتْ: يا رسولَ الله، قد أجزتُ ما صنع أبي؛ ولكن أردت أن أعلم ألِلنساء من الأمر شيء"[5].
كما أنَّ الإسلام أكرم المرْأة بتشريع ما يصونُها ويحفظ كرامتَها وعفافها، فأمر بالحجاب والستر، ونهى عن السفور والاختلاط.
ومن تكْريم الإسلام للمرْأة أن هيَّأ لها أسباب الاستِقْرار والرَّاحة والأمان؛ فأوْجَب على زوجِها: النَّفقة والكسْوة والسَّكن، كما أمره برِعايتِها والتلطُّف معها.
والدَّليل على ذلك ما قالَه النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فاتَّقوا الله في النِّساء فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمان الله واستحللْتُم فروجَهنَّ بكلمة الله، ولكم عليهنَّ ألاّ يوطئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلْنَ ذلك فاضربوهنَّ ضربًا غير مبرح، ولهنَّ عليْكم رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ بالمعروف))[6].
ليس هذا فحسب، بل جعل النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الإنفاق عليْها من أفضل النَّفقات، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "دينارٌ أنفقْتَه في سبيل الله، ودينار أنفقْته في رقبة ودينار تصدَّقت به على مسكين، ودينارٌ أنفقْته على أهلك؛ أعظمُها أجرًا الَّذي أنفقتَه على أهلك"[7].
وقد حثَّ الإسلام على التودُّد إلى المرأة وتحمُّل ما قد يصدر منها من أذًى، وحفظ معروفها؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة؛ إن كرِه منها خلقًا رضي منها آخر))[8].
وبعد، فهذا غيضٌ من فيْض عن مكانة المرأة ومنزلتِها في الإسلام منزلة التكريم، ومنزلة التَّشريف والوقار، فهل بعد ذلك تكريم؟! فإنَّه وايم الله تكريمٌ ما بعده تكريم، وتشريفٌ ما بعده تشريف.
المبحث الأوَّل
تعريف القوامة لغة واصطلاحًا
القوامة في اللغة: مِن قام على الشَّيء يقوم قيامًا؛ أي: حافظ عليْه وراعى مصالحَه، ومن ذلك القيم، وهو الَّذي يقوم على شأن شيء ويليه، ويُصْلِحه، والقيِّم هو السيِّد، وسائس الأمر، وقيِّم القوم: هو الَّذي يقومهم ويسوس أمورَهم، وقيِّم المرْأة هو زوْجُها أو وليُّها؛ لأنَّه يقوم بأمرها وما تحتاج إليْه.
والقوَّام على وزن فعال للمبالغة من القيام على الشيء، والاستِبداد بالنَّظر فيه وحفظه بالاجتهاد[9].
القوامة في الاصطلاح:
أطلق الفُقهاء ثلاثة معان على لفظة (القوامة)، وهذه المعاني هي:
الأول: القيِّم على القاصر، وهي ولاية يعهد بها القاضي إلى شخصٍ رشيد ليقومَ بِما يصلح أمر القاصر في أموره الماليَّة.
الثاني: القيِّم على الوقف، وهي ولاية يفوض بِموجبها صاحبها بِحِفظ المال الموقوف، والعمل على بقائه صالحًا ناميًا بحسب شروط الواقف.
الثَّالث: القيِّم على الزَّوجة، وهي ولاية يفوّض بِموجبها الزَّوج تدبير شؤون زوجتِه والقيام بِما يصلحها[10]، وهذا ما نحن بصدَد الحديث عنه.
وبناء عليه؛ يمكن القول بأنَّ القوامة الزوجيَّة: ولاية يفوّض بموجبها الزَّوج القيام على ما يصلح شأن زوجتِه بالتدبير والصيانة.
وبِهذا يتبيَّن أنَّ القوامة للزَّوج على زوجتِه تكليف للزَّوج، وتشريف للزَّوجة، حيث أوجب عليه الشَّارع رعاية هذه الزَّوجة التي ارتبط بها برباط الشَّرع واستحلَّ الاستمتاع بها بالعقد الَّذي وصفه الله - سبحانه وتعالى - بالميثاق الغليظ؛ قال تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21]، فالقوامة من ثَمَّ تشريفٌ للمرأة وتكريم لها، بأن جعلها تحت قيِّم يقوم على شؤونِها وينظر في مصالحها ويذبُّ عنها، ويبذل الأسباب المحقّقة لسعادتها وطمأنينتِها.
ولعلَّ هذا يصحِّح المفهوم الخاطئ لدى كثير من النساء، من أنَّ القوامة تسلُّط وتعنُّت، وقهر للمرأة وإلغاء لشخصيَّتها، وهذا ما يحاول الأعداء تأكيدَه، وجعله نافذة يلِجون من خلالها إلى أحكام الشَّريعة الإسلامية فيعملون فيها بالتَّشْويه.